مدى جواز إثبات الواقعة قانوناً فـــي القانون اليمني والفقه الإسلامي
##plugins.themes.bootstrap3.article.main##
Abstract
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف النبيين والمرسلين سيدنا محمد بن عبد الله النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
أ. موضوع البحث وأهميـته:
أن الوقائع بوصفها محل الإثبات، هي كل سبب منشئ للحق المدعى بوجوده أو زواله أو وصفه. وهذا السبب هو مصدر الالتزام، سواء كان عقداً أو إرادة منفردة أو عملاً غير مشروع، أو واقعة طبيعية أو إثراء بدون سبب([1])، فالمدعي لا يطالب بإثبات القاعدة القانونية التي تقرر الحق، وإنما يطالب بإثبات الواقعة القانونية التي أدت إلى نشوء هذا الحق، فمحل الإثبات هو مصدر الحق، أي هو الواقعة القانونية التي أنشأت هذه الحق([2])، وعلى ذلك فمن يريد إثبات وجود حق له – سواء كان هذا الحق شخصياً أو عينياً – أو انقضاء هذا الحق أو إثبات وصف معين يلحقه، فإن عليه أن يثبت مصدر هذا الوجود أو الانقضاء أو الوصف([3])، فمن يدعي ديناً في ذمة آخر يكون عليه أن يثبت مصدر هذا الدين، أي الواقعة التي أنشأت هذا الالتزام، سواء كانت العقد أو الإرادة المنفردة، أو العمل غير المشروع أو الإثراء بلا سبب أو الواقعة الطبيعية التي رتب عليها القانون هذا الالتزام([4])، فأسباب نشوء الحق هي سند الدين، يقدمه الدائن لمطالبة المدين بالوفاء أو عقد بيع أو إيجار، يثبت به أحد المتعاقدين الاتفاق الذي يطالب بتنفيذه وقد يكون واقعة مادية، فيطالب المتضرر بتعويض الضرر الذي تسبب فيه الخصم، ويثبت لذلك حدوث الفعل الضار والعلاقة السببية بين هذا الفعل والضرر، أما أسباب زوال الحق، فلا يختلف بعضها عن أسباب نشوئه، كأن يقدم المدين سند الوفاء لدفع ادعاء الدائن، أو يثبت وجود دين مماثل للدفع بالمقاصة، كذلك يثبت زوال حق ارتفاق مرتب على عقار بإثبات الواقعة التي أدت إلى هذا الزوال، كإحداث منفذ إلى الطريق العام لعقار كان محاطاً من كل جانب، فينقضي بذلك حق المرور في العقار المجاور([5]).
والأعمال أو التصرفات القانونية تتميز بأمر جوهري عن غيرها من الوقائع القانونية الأخرى فالتصرفات القانونية قوامها الإرادة التي تتجه إلى إحداث أثر قانوني معين، وهو يكون إما من جانبين – كما في العقود بصفة عامة كالبيع والإيجار – أو من جانب واحد – كما في الوصية والإقرار([6]).
أما الوقائع الطبيعية والأعمال المادية، فسواء تدخلت في وجودها إرادة الشخص أو لم تتدخل، فإنها تتفق جميعاً في أن القانون هو الذي يحدد آثارها([7])، فالواقعة الطبيعية تحدث دون تدخل من إرادة الإنسان كهبوب العواصف وانفجار البراكين والزلازل ووفاة شخص وفاة طبيعية، لكن القانون هو الذي يحدد الآثار المترتبة عليها، وكذلك الحال بالنسبة للأعمال المادية التي يأتيها الإنسان إما دون قصد ترتيب آثارها القانونية عليها كارتكاب الشخص لفعل ضار كمن يصدم الغير بسيارته، وإما مع قصد ترتيب آثارها القانونية عليها كقيام الشخص بوضع يده على شيء مملوك لغيره بقصد تملكه([8]).
ولتقسيم الواقعة القانونية إلى واقعة مادية وتصرف قانوني أهمية بالغة في الإثبات، فالأصل في التصرفات القانونية أنه لا يجوز إثباتها إلا بالكتابة إذا تجاوزت النصاب المعين الذي حدده القانون في غالبية التشريعات عدى القانون اليمني– أما الواقعة المادية فيجوز إثباتها بجميع طرق الإثبات. وهذه قاعدة توجبها الضرورة العملية وإن لم يرد بشأنها نص عام – لأن طبيعة هذه الوقائع لا تقبل إعداد دليل معين بشأنها في الإثبات، كما هو الأمر في الإكراه أو التدليس الذي يعيب العقد، او طلب تعويض عن ضرر أصاب شخصاً ما بسبب جريمة ارتكبت ضده، فلا يعقل أن يطالب هذا الشخص بدليل كتابي لإثبات أي حالة من الحالات السابقة ونحوها، لأن ذلك يجعل الإثبات في أغلب الحالات مستحيلاً، وإنما يكون له أن يثبت هذه الوقائع بالكتابة أو بغيرها من طرق الإثبات حتى الشهادة والقرائن([9]).
وبناءً على ذلك إن الوقائع القانونية سواء كانت تصرفاً قانونياً أو واقعة مادية يقع عبء إثباتها على الخصوم، وينحصر دور القاضي فيها على فحصها وتقويمها، والتأكد على وجه الخصوص من توافر الشروط التي يستوجبها القانون من الواقعة المراد إثباتها، والتي نصت عليها المادة (6) من قانون الإثبات اليمني رقم (21) لسنة 1992م والمعدل بالقانون رقم (20) لسنة 1996م التي تقضي بأنه: "يشترط في الدعوى من حيث الإثبات والإجابة عليها ما يأتي:
1- ثبوت يد المدعى عليه على الحق المدعي فيه حقيقة أو حكماً.
2- تعيين الحق المدعى فيه بحد أو لقب أو وصف أو نحوه كل على حسبه، ويستثنى من ذلك ما يقبل الجهالة كالوصية والإقرار والنذر وعوض الخلع والمهر"
وهذه هي شروط لا تخرج عن مضمون ما استلزمه الفقه والقانون المقارن في الواقعة القانونية المراد إثباتها، كالمادة (4/1) من قانون البينات الأردني، والمادة الثانية من قانون الإثبات المصري، والمادة الثالثة من قانون البينات السوري، والمادة 98/1 من قانون المرافعات العراقي، والمادة 5 من قانون الإثبات السوداني، والفصل 426 من مجلة الالتزامات والعقود التونسية.
والتي لا تخرج عن الشروط التالية: وهي أن تكون الواقعة التي يراد إثباتها متعلقة بالدعوى، ومنتجة في الإثبات، وجائزاً قبولها، ويضيف الفقه([10]) شروطاً أخرى تفرضها طبيعة الأشياء ولذلك لم يحرص المشرع في القانون المقارن على ذكرها صراحة في المواد السالفة الذكر وهذه الشروط هي أن تكون الواقعة محل نزاع، وأن تكون محددة وممكنة. ومن الطبيعي أن هذه الشروط تحد من حق الخصوم وحريتهم في الإثبات.
لأن إثبات واقعة ما عند نظر النزاع أمام القضاء مقصود به أن يوصل إلى إظهار حقيقة ما يدعي به([11]). ولكل شخص حق اختيار الوقائع القانونية لإثبات دعواه وتبريرها، ولكن تقيد هذه الحرية بقيود بسبب طبيعة الأشياء أو لسبب يراه المشرع لحرصه على حسن سير العمل في المحاكم أو لتحقيق مصلحة عامة. لذلك فإن الشروط المستوجب توافرها في الواقعة المراد إثباتها تنقسم إلى نوعين: شروط تنبع من طبيعة الأشياء، فهي شروط بدهية وهي: 1– أن تكون الواقعة محددة. 2– متنازعاً عليها. 3– ممكنة الوقوع.
وشروط أساسية وهي: 1– أن تكون الواقعة متعلقة بالدعوى، 2– وأن يكون إثباتها صالحاً للدعوى أي منتجاً فيها. 3– جائزاً قبولها.
فالواضح من هذه الشروط أنها تهدف جميعاً إلى ضمان صلاحية الواقعة لأن تساهم على فرض ثبوتها، في تكوين اقتناع القاضي لحل النزاع المعروض([12]) ويجب أن نوضح قبل بيان هذه الشروط بأنها تنطبق على كل الوقائع المراد إثباتها بصرف النظر عن نوع طرق الإثبات التي يستوجبها القانون في ذلك، كأن يفرض الاحتجاج بدليل معين، هو عادة الكتابة، ففي هذه الحالة، يضاف وجود هذا الدليل للشروط المذكورة كشرط آخر لإثبات الواقعة([13])؛ لأن هناك ثمة فارق بين شروط طرق الإثبات وشروط الواقعة محل الإثبات، وترتب على ذلك من ناحية أخرى أنه إذا كان القانون يجيز الإثبات بدليل كالكتابة فهذه مسألة تتعلق بشروط طرق الإثبات، وكون القانون لا يجيز إثبات واقعة معينة لاعتبارات تتعلق بالنظام العام أو لأنها غير منتجة في الدعوى فهذه شروط تتعلق بالواقعة محل الإثبات، وهي شروط إذا لم تتوفر لا يجوز إثبات الواقعة ولو كانت طرق الإثبات المستخدمة في إثباتها مما يجيز القانون إثبات مثلها بها([14]). ومن هنا تأتي أهمية بحث مدى جواز إثبات الواقعـة قانوناً في القانون اليمني والمقارن والفقـه الإسلامي والذي راعيت فيه سهولة الأسلوب ووضوح العبارة بما يبسـط الموضوع ويجعله يسير المآخذ بالنسبة للطالب والقارئ على حدٍ سواء.
ب. منهج البحث وخطـته:
أن المشرع اليمني لم يساير التشريعات الوضعية الأخرى في استخدام المصطلحات القانونية وترتيب شروط الواقعة للإثبات المعتاد استعمالها في الفقه والقضاء والقانون المقارن بهذا الشأن، وهذا يتضح من نص المادة (6) من قانون الإثبات اليمني التي قضت بأنه: "يشترط في الدعوى من حيث الإثبات والإجابة عليها ما يأتي:
1- ثبوت يد المدعى عليه على الحق المدعى فيه حقيقة أو حكماً.
2- تعيين الحق المدعى فيه بحد أو لقب أو وصف أو نحوه كل على حسبه، ويستثنى من ذلك ما يقبل الجهالة كالوصية والإقرار والنذر وعوض الخلع والمهر".
فيتبين من هذا النص أن المشرع اليمني – كما سنرى– قد استعمل مصطلحات الفقه الإسلامي في شروط محل الإثبات وعلى أية حال يوجد تشابه كبير بين الشريعة والقانون في شروط محل الإثبات وهذا ما ستوضحه هذه الدراسة الذي انتهجـنا فيها المنهج التحليلي الموضوعي المقارن بالقوانين المعاصرة المختارة وبما جاء في الفقه الإسـلامي والقانون اليمني بهذا الصدد مع إيراد بعض الاجتهادات القضائية التطبيقيـة وعلى الأخـص ما جاء من أحكام بهذا الشأن في القضاء اليمني والقضاء المصري ونظيره الفرنـسي وعلى هذا اقتضت منا طبيعـة البحث في هذا الموضوع أن نبني خطته العامة من الناحية الشكلية على النحـو التالي:
المبحث الأول: أن يكون محل الإثبات (الحق المدعى فيه) معيناً
المبحث الثاني: أن تكون الواقعة المراد إثباتها متنازعاً فيها
المبحث الثالث: أن تكون الواقعة المراد إثباتها متعلقة بالدعوى
المبحث الرابع: أن تكون الواقعة المراد إثباتها منتجة في الدعوى
المبحث الخامس: أن تكون الواقعة المراد إثباتها، جائزة القبول قانوناً
المبحث السادس: أن تكون الواقعة المراد إثباتها ممكنة الوقوع
خاتمة تتضمن أهم النتائج والتوصيات التي خرجنا بها من هذه الدراسـة
والله الموفق ؛؛؛
[1]) د. رضا المزغني، أحكام الإثبات، معهد الإدارة العامة، الرياض، 1986م، ص60.
[2]) د.عبدالمنعم فرج الصدة، الإثبات في المواد المدنية، الطبعة الثانية، مصر القاهرة، 1955م، ص23، وكذا المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي للقانون المدني المصري ج10 ص349/350 حيث جاء فيها: "يتعين أن يقام الدليل على كل واقعة قانونية يدعى بها وفقاً للأحكام المنصوص عليها في القانون المدني، متى شرعت هذه الواقعة أو أنكرت صحتها، والجوهري في هذا الصدد هو أن الإثبات يرد على الواقعة القانونية ذاتها بوصفها مصدراً للحق والالتزام، دون هذا الالتزام أو ذاك الحق..".
[3]) د. رمضان أبو السعود،, أصول الإثبات في المواد المدنية والتجارية, الدار الجامعة بيروت لبنان 1986م، ص153.
[4]) د. الصدة، مرجع سابق، ص23.
[5]) د.رضا المزغني، مرجع سابق، ص60/61، وانظر الفصل 177 من مجلة الحقوق العينية التونسية.
[6]) د.عباس العبودي، شرح أحكام قانون البينات الأردني، طبعة 2005م, دار الثقافة عمان, الأردن.ص42، د. محمد يحيى مطر، الإثبات في المواد المدنية والتجارية، طبعة 1987م، ص7، د.الصدة، مرجع سابق، ص24.
[7]) د. الصدة، مرجع سابق، ص24..
[8]) د.رمضان أبو السعود، مرجع سابق، ص259.
[9]) فقد يلجأ الأفراد من الناحية العملية إلى تقرير واقعة مادية عن طريق الكتابة، كتحديد محضر عن طريق شرطي المرور في تحديد الأضرار التي يحدثها شخص نتيجة لاصطدام سيارته بالغير، وليس هذا في الواقع إلا وسيلة للتيسير على الغير في الإثبات، بوصفها= =أكثر ضماناً من شهادة الشهود، فضلاً عن ذلك فإن القانون في بعض الأحيان يستلزم الكتابة لإثبات واقعة مادية كما في إثبات الميلاد والوفاة إذا لم يوجد هذا الدليل أو اتضح عدم صحة ما جاء به فإن الإثبات يجوز بأية طريقة أخرى، إذ أن الولادة والوفاة واقعتان ماديتان يمكن إثباتهما بجميع طرق الإثبات، وتطبيقاً لذلك قضت محكمة التمييز الأردنية بأن "التبليغ عن الولادة في شهادات الميلاد الصادرة عن وزارة الصحة يعتبر حجة لا يجوز إثبات ما يخالفها إلا بالتزوير، وإنما تعتبر صحيحة يجوز إثبات عكسها أو ما يخالفها عملاً بالمادة 7/2 من قانون البينات إذا لم يكن المبلغ عن الولادة من ذوي الشأن أو من المسئولين عن تبليغ حالات الولادة" د.عباس العبودي، شرح أحكام قانون البينات الأردني ص43 وقد أشار إلى قرار محكمة التمييز الأردنية رقم 1071/92، ص464 سنة 1994م، الاجتهاد القضائي لمحكمة التمييز الأردنية، ج5، ص684.
[10]) د. عبدالرزاق السنهوري، الوسيط ج2، دار التراث العربي، بيروت لبنان، 1968م، ص57، د. الصدة، مرجع سابق، ص31، د. رمضان أبو السعود، مرجع سابق، ص260 د/ رضا المرغني، مرجع سابق، ص61، د. آدم وهيب النداوي، دور الحاكم المدني في الإثبات، مؤسسة الثقافة، عمان الأردن، 1997م، ص35، د. عباس العبودي، مرجع سابق، ص43.
[11]) د. الصدة، مرجع سابق، ص30.
[12]) د. الصدة، مرجع سابق، ص31.
[13]) د. رضا المرغني، مرجع سابق، ص61.
[14]) د. آدم وهيب النداوي، مرجع سابق، ص35.
Downloads
##plugins.themes.bootstrap3.article.details##
JSS publishes Open Access articles under the Creative Commons Attribution (CC BY) license. If author(s) submit their article for consideration by JSS, they agree to have the CC BY license applied to their work, which means that it may be reused in any form provided that the author (s) and the journal are properly cited. Under this license, author(s) also preserve the right of reusing the content of their article provided that they cite the JSS.